في معسكر الحصار المغدور داخل الجيب الفلسطيني المحتل للمرة التاسعة والتسعين، يكتظ السكان بشكل لا يُطاق، فتجد البيوت المبنية من الطوب المقصور وغير المقصور، طبقات متراصة تعلو بعضها مثنى وثُلاث ورُباع، فتلتصق الشرفات بالشرفات المقابلة، وترتفع العمارات آخذةً بعضها بالأحضان، كمجمعات سكنية شعبية مهترئة متسخة، لانهائية الامتداد، والناظر إليها من بعيد يقول:
" يبدو أن الشرفات العالية تعشق بعضها بعضاً، وتلتقي بمثيلاتها بالأحضان. لاحظ المحبّة، وهدوء البال، وإلى أي مدى تتآلف العائلات هناك، وتحب وتتعاون فيما بينها! تجدهم هناك مثل الإخوة، يأكلون من طبق واحد، وينشرون غسيلهم على حبل واحد، ويُوقظون بعضهم بعضاً في ليالي رمضان.الله! ما أحلى ليالي رمضان.عندما يتسحرون معاً، ويتبادلون أحاديث تُفَطِّس من الضحك، وأحاديث تُبكي. ما أحلى خُرّافيات الجدة التي تجمع أطفال العائلة المتناثرين، وتُخَرِّفهم خُرّافيات تخيف وتمتع." فيرد عليه أحد سكان العمارة، الذي يعيش الحدث:
" لو تدري شدة الصراعات العائلية، والغيرة القاتلة، والحسد والنكد الذي ينشب بيننا وبين جيراننا هناك في علِّيِّين! فهذه الجارة التي تربي الأرانب في الشرفة، فتهب روائحها النتنة على غرف نومنا، فتُفطِّس أنوفنا.
وهذا الولد المراهق يفتح المسجل بأعلى صوت، فيتجشأ المغني الألمعي (جورج بتشوف: بحبِّك. بحبَّك. روح قلبي. نار قلبي. الحب في القلب، زي الرز في الكوسا.نغم!) وذاك العجوز الذي قضى عمره في (الّلي يسوى، واللّي ما يسواش) والمُصِرّ على دخول الجنة بالقوة، تحت شعار(قضى عمره في أعمال البرِّ والتقوى).يا أخي عندما يموت أي شخص، تجدهم يكذبون فوراً في سيرته، ويشهدون زوراً بأنه قضى كل عمره في أعمال البر والتقوى! وقبل وفاته بأعوام، تجد الحاج يهمد في سريره. تسألني لماذا سموه (الحاج) مع أنه لم يحج؟ ولم يسموه مثلاً (المُصلِّي) أو (المُزَكِّي) مع أنها كلها أركان الإسلام الخمسة؟ فأنا لا أعرف! كل الذي أعرفه، أن الحاج يصحو مبكراً مع صلاة الفجر، فيمد يده إلى المذياع، فيفتحه على إذاعة القرآن الكريم بأعلى صوت، ليسمعه أهل حي "الجبّارين" القريب، ويفهم كل حي "سلام الشجعان" البعيد أن هناك داخل تلك الكومة من الطوب المتهالك فوق بعضه البعض، بقايا رجل تقيٍّ وورع، مُتمدِّد في غرفة ما.
وهذه الجارة تتهم جارتها بالتلصص على زوجها الغافل، وهو متمدد بملابسه الداخلية على سريره، فتثور جارتها قائلة: "إن زوجك المتغافل هذا، قد غمزني عدّة مرات من شرفة منزلك، ولكنك تجاهلت فُجُوره! وبصراحة، فإن تمدده بملابسه الداخلية أمام بصر الجارات، يُصَنّف تحت بند الفضائح. فاستري على زوجك يا (مَرَة)، ثم بعد ذلك اتهمي المحصنات الغافلات! سبحان الله! صار كل الرجال والنساء هذه الأيام، محصنات غافلات!"
وعلى سطوح العمارة (كراكيب) ومخزونات كثيرة، ومكعبات صفيحية لتخزين المياه، وفي الزاوية تنحشر غرفتان، مساحة كل منهما متران، إحداهما غرفة نوم، والأخرى تحوي… وفي غرفة النوم يلتصق أربعة أطفال ببعضهم تحت سرير زنبركي، تتمدد فوقه أمهم، ويتمدد فوقها أبوهم. وأحاديث متداخلة، ومشكلات كثيرة تنجم عن ذلك التشابك المعماري غير المدروس، وغير المنظم، وغير الآمن على رؤوس من ينامون تحته، وغير القانوني أصلاً بكل المعايير، ولكن للضرورات أحكام!
هذا في الجو، وأما إذا نظرت إلى الطرقات الترابية السرادبيّة الضيقة، التي تتوسطها قنوات ضحلة لسوائل زرقاء غامقة وسكنية وسوداء، مع مخلفات أخرى ذوات روائح منتنة، تعمر الطرق الترابية المغبرّة الشاحبة، فتبدو للمارة مسقوفة معتمة، إذ لا يجف الغسيل المنشور والمُدلّى بكثافة من الشبابيك والشرفات التي لا تشرف على شيء، سوى العتمة. وفي نهاية النفق المظلم، يُفتِّح نور الشمس الساطع، فيشير إلى نهاية مطمئنة، بأن هناك مخرجاً من هذا الطريق الكئيب الخانق! ومن الجهات الأخرى المواجهة للشمس، تشاهد العمارات الطوبية تلتصق بمقدمات بعضها (أحواش) من صفيح، أو فناءات إسمنتية للبيوت، لتمنحها بعض الخصوصية.
هذا المجمع السكني الكرتوني المتهالك، والمتساقطة بعض أضلاعه، ليتراكم عليها كثير من النفايات الساقطة من الطوابق العُليا، تجاوره هنا مغارة معتمة ورطبة خانقة، تستخدم كمستودع تجاري، تفوح منها رائحة أسطوانات الغاز المُخزّنة. وهناك مهاجع للأغنام والماعز النائمة، وترى بقرة جف ضرعها، ونضب زرعها، تلحس التراب، وتخور ألماً ومعاناة، ويطن حولها ذباب أزرق لئيم، يطير ويناور، ثم يستحكم تحت ذيلها.
وعلى الأرض، أمام هذا التشوه المعماري، تتراكم هنا وهناك أكوام من الحطب الجاف، وجذوع أشجار، يجرها أطفال مأمورون، وعجائز الفرنيّات، مع غبارها اللاحق خلفها على شكل مظاهرة بيئية تفور بالغبار الخانق، يجمعونها من حطام المزارع التي تقتلها الكاتربلر.
بعد تمعن، وبحث دقيق، يدرك سكان المعسكر أن الجرافات لديها حساسية من الخضرة.- لا أعرف من هو الحاكم الذي منع أكل الفجل الأحمر، لأنه أحمر- وهذه الجرافات تكره اللون الأخضر، لأنه أخضر، وتأمر مجنديها الآليين المستنسخين عن هولاكو، فيفسقون فيها، ويقضون على اللون الأخضر، ويجرِّفون كل المزارع التي تعارضهم، بهدف إفراغ المنطقة، لتتضح الرؤية أمام الدبابات التي تريد أن ترى مسافة أبعد من مدى رؤية زرقاء اليمامة، تلك المرأة التي كانت مصابة بمرض (بُعد النظر)، وإذ لم يكن يومها نظّارات فيها نظر، أو نظّاراتي محترم يفهم للحرمة، فلقد ازداد معها مرض بُعد النظر، حتى صارت ترى الأشياء التي على بُعد ألف ميل، ثم صارت ترى الأشياء الواقعة على الجهة الأخرى من الكرة الأرضية، فتبلغ جماعتها، بهدف حمايتهم من غزوات الإمبراطوريين المتشددين الجدد.
وغيرةً من مدى رؤية زرقاء اليمامة، تقرر الدبابات تجريف الجبال والوديان، والمدى والأفق والزمان والمكان، والأشجار والطيور، والسماء والأرض، لتتضح لها الرؤية، وتتفوق على رؤية زرقاء اليمامة، فتدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية. - على فكرة، لم تدخل زرقاء اليمامة موسوعة جينيس يومها، وصرّح الناطق الرسمي بأن السبب؛ هو كون السيدة عربية العينين، وإرهابية المقاوم