وحين تحجرت مكة في وجه الدعوة إلى ذلك الحد المؤلم، رأى الرسول (صلّى الله عليه وآله) أن يأذن لعدد من أتباعه، بالهجرة إلى الحبشة، ليوفر لهم حماية، ومنجى من الاضطهاد على الأقل، وقد هاجر منهم فعلاً أحد عشر رجلاً، وأربع نسوة، وخرجوا متسللين حتى إذا بلغوا البحر، وجدوا سفينتين للتجار، فاستأجروهما إلى الحبشة.
وحين بلغ قريشاً أمرهم، تبعتهم إلى البحر فلم تجد لهم أثراً.
ووصلوا أرض الهجرة. وبقوا فيها ثلاثة أشهر، فبلغهم أن قريشاً أسلمت، فعادوا إلى مكة.
ولم تكف قريش عن ملاحقتهم، بالعذاب، والأذى.
فأمرهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالهجرة إلى الحبشة مجدداً، فهاجروا، وكانوا ثمانين رجلاً، وثماني عشرة امرأة، وفي طليعتهم جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء، وحين وصلوا الحبشة أحسن النجاشي جوارهم، فاطمأنوا بشكل لم يجدوا له مثيلاً في وطنهم.
وقد أقلق قريشاً أمر الهجرة إلى الحبشة، فخشيت العاقبة، وساءها أن يطمئن حملة الدعوة هناك، فأرسلت عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي، وحملتهما الهدايا للنجاشي وحاشيته محاولة منها لإقناعه بالتخلي عن جوارهم، وإعادتهم إلى مكة. ولكن خطتهم فشلت في إرجاع المهاجرين، وبقي المهاجرون في الحبشة.
تصاعد المحنة وإعلان الحصار
حين فشلت خطة قريش في إفشال هجرة الحبشة، صبت حقدها على الدعوة في مكة، واتخذ رؤوس الشرك فيها قراراً، مفاده: إن لم يخل أبو طالب بين قريش ومحمد (صلّى الله عليه وآله)، فلابد من مقاطعة قريش كلها لبني هاشم جميعاً.
ولما لم يستجب أبو طالب لمطالب قريش، وأصرّ على حماية الرسول (صلّى الله عليه وآله) مهما كان الثمن كتبت قريش صحيفة فيما بينها، تضمنت مقاطعة بني هاشم جميعاً في البيع، والشراء، والمخالطة، والزواج، ووُقّعت من لدن أربعين زعيماً، من زعماء قريش، وعلقوها داخل الكعبة، وحصروا بني هاشم جميعهم إلا أبا لهب لشدة خصومته لرسالة الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) في شعب أبي طالب.
فحصن أبو طالب الشعب وأمر بحراسته، ليلاً ونهاراً، وصار بنو هاشم لا يخرجون من الشعب إلا من موسم إلى موسم، موسم العمرة في رجب وموسم الحج في ذي الحجة، ونظراً لتفاقم الموقف بينهم وسائر قريش.
وقد قطعت قريش عنهم التموين، إلا ما يصل إليهم سراً وهو لا يسد حاجتهم من الغذاء.
وبلغ بهم الضيق كل مبلغ بسبب ذلك، حتى مضى على المقاطعة ثلاث سنين.. فأرسل الله تعالى دودة الأرضة على صحيفتهم فأكلتها جميعاً غير (باسمك اللّهم).
وأنبأ الله رسوله (صلّى الله عليه وآله) فأخبر عمه أبا طالب بالأمر فصدق قول ابن أخيه. وخرج أبو طالب إلى القوم وأخبرهم.. (.. إن ابن أخي أخبرني: أن الله قد سلط على صحيفتك الأرضة فأكلتها غير اسم الله، فإن كان صادقاً نزعتم عنه سوء رأيكم، وإن كان كاذباً دفعته إليكم..)
قالوا: قد أنصفتنا، ففتحوها، فإذا هي كما قال.
ووقع بين قريش نزاع حاسم بعد ذلك تمخض عن تمزيق الصحيفة وانتهاء المقاطعة.
وكان لفشل المقاطعة القريشية وإحباطها الأثر الكبير في كسب الأنصار والمؤيدين للدعوة داخل مكة.